السبت، 30 يوليو 2011

عنق الزجاجة

هالة الدوسري
لا يوجد شيء يعكس طبيعة التعامل الرسمي والاجتماعي المتردد في تعاطيه مع قضايا المرأة بفعالية وحسم كما تعكسه قضية عبورها من المقعد الخلفي في السيارة إلى المقعد الأمامي، وهي قضية على بساطتها وبديهيتها استهلكت أكثر من عشرين عاماً من المطالبات والاعتراضات حتى انتهينا اليوم من حيث بدأنا، فبالرغم من عدم وجود خلفية دينية ثابتة ولا مبرر منطقي لاستمرار اعتماد امرأة قادرة وراشدة على رجل ما للحركة تبقى القيادة ممنوعة رسمياً، وتأتي فتوى دينية قديمة لتصبح مرجعاً رسمياً لسياسات الدولة، و تتحدد بواسطتها خريطة الطريق لملايين النساء السعوديات.
الفتاوى الدينية غير الملزمة شرعاً حول قضايا النساء تتحول مع الترديد والاعتياد إلى ثوابت تحمل درجة اليقين، وهي فتاوى مبنيّة على رؤية لا تخرج عن اعتبار المرأة فتنة و أن إخفاءها و ارتباط ممارساتها اليومية بولي رجل هو أولوية اجتماعية ودينية في التخطيط لقضايا النساء، و مع مرور الوقت يترسّخ في وعي الناس مفردات مرتبطة بهذه الفتاوى لتبرر واقع الإقصاء و إعاقة النساء بدلاً من حل إشكاليتهن الحياتية، مفردات مثل «الاختلاط» و»العورة» و»ثوابت الدين» و»التغريب» و»الخصوصية» و»ترتيب الأولويات في حقوق المرأة» و غيرها، مما يضعنا أمام معضلة تنمية مجتمع قادر وكامل إن حذفنا نصف المجتمع من المعادلة و تركناه رهن إرادة النصف الآخر، خارطة الطريق الموضوعة للمرأة السعودية باختصار تخدم رؤية وحيدة فقط للمرأة تفترض وجود ذكر قادر لكل امرأة يقوم على شؤونها كافة، وتفترض أن انسحاب المرأة من الحياة العامة للحياة الخاصة هو الضمان ضد الفتنة لحماية الرجال في الفضاء العام الحصري لهم، والفتوى الصادرة عن الشيخ (بن باز) حول القيادة و التي بنت عليها الجهات الرسمية قرار منع القيادة للنساء تصب في المعنى نفسه، حيث تنص الفتوى على التالي: «معلوم أن قيادة المرأة تقود إلى مفاسد منها: الخلوة المحرمة بالمرأة، ومنها السفور، ومنها الاختلاط بالرجال بدون حذر، ومنها ارتكاب المحظور الذي من أجله حرمت هذه الأمور، والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية إلى المحرم واعتبرها محرمة، وقد أمر الله جل وعلا نساء النبي ونساء المؤمنين بالاستقرار في البيوت، والحجاب، وتجنب إظهار الزينة لغير محارمهن لما يؤدي إليه ذلك كله من الإباحية التي تقضي على المجتمع».تطرح الفتوى مجموعة فرضيات على أنها مسلّمات، و تعتبر وجود المرأة في الفضاء العام مقدمة مفترضة لكل المفاسد، بالرغم من حدوث المفاسد بلا قيادة للسيارة فلا تعتبر القيادة في حد ذاتها مسبباً، كما أن اعتبار ظروف المرأة المختلفة غير واردة في إطلاق الفتاوى، و كنت أتابع على الشبكة الاجتماعية حوارا بين سيدة مطلقة و أم لطفل صغير مع أحد العلماء حول مسألة القيادة وعناءها اليومي في المواصلات لعملها و مشاويرها، اعتبرت السيدة أن بحثها عن سائق خلال ساعات الليل لتوصيل طفلها للمستشفى أمر أكثر خطورة من قيادتها لسيارتها في أمان، بينما كان الشيخ مصرا على أنها ككل امرأة لن تعدم رجلا يقوم على شؤونها، وعندما أقسمت له على عدم توفر أي رجل لخدمتها دعا لها أن يرزقها الله الزوج الصالح عما قريب، هذا المنطق المحدود في النظر لأمر بسيط كالقيادة يثير التساؤل حول مرجعية الفتاوى كمصدر صالح لصنع سياسات الدولة وتمكين أفرادها، ومن المفارقة أن يفتي الشيخ أحمد بن باز بإباحة القيادة ليعكس بذلك فتوى والده السابقة، و ليؤكد بذلك أن الفرضيات التي تبني عليها الفتوى مسار المرأة السعودية في كافة المجالات ليست وحيا منزّلا بل فرضيات قابلة للنفي أو الإثبات، ومنطقيا لا يمكن ربط مسبب ما كالاختلاط بنتيجة كالإباحية بلا إثبات، الاختلاط كمفهوم اجتماعي موجود منذ القدم وهو أمر أساسي في كل المجتمعات وحتى في الشعائر الدينية من صلاة و حج بلا نص يمنعه، كما أنه يحدث يوميا على أي حال سواء بوجود المرأة في السيارة مع سائق أو وجودها وحدها، ولا يمكن أن نتوقع أن لا تخرج امرأة من منزلها طوال حياتها لأي سبب كان منعا لاختلاطها في الفضاء العام بالرجل، والنساء في الهجر والقرى والعالم كله يمارسن القيادة بلا نتائج إباحية، و رجل المرور في تعامله مع السائقات كالقاضي الذي ينظر في قضايا النساء وكالطبيب الذي يعالجهن وكرجل الإطفاء الذي ينقذهن وكالموظف الذي يبحث معاملاتهن في كل مطار أو مكان عام، أما افتراض بقاء النساء رهينات للفضاء الخاص أو خلق فضاء نسائي حصري مواز للفضاء الذكوري العام ليمارسن فيه شؤون الحياة فهو أمر خيالي ولا يمكن تطبيقه كسياسة شاملة ودائمة للدولة لا اقتصاديا و لا اجتماعيا، و سياسة العزل الصارم بين الجنسين بدأت مع تشكيل المدن في الدولة السعودية الحديثة ورسّختها صناعة السياسات العامة في الدولة، وفي بحث نشر مؤخرا «للنساء فقط: النساء و الدولة و الإصلاح في السعودية» استعرضت أميلي لو رينارد تاريخ البدء بسياسة عزل النساء و خلق فضاءات عامة نسائية فقط كاشتراط لحصولهن على التعليم أو العمل، مما أدى لصعوبة حصولهن على المناصب الإشرافية العامة أو في صياغة السياسات المدنية عموما. عدم وجود النساء في الفضاء العام يسهم في صعوبة منحهن حقوقهن كلها بداية من القيادة وانتهاء بالتمثيل السياسي، فلم يعتد عموم الناس على التعاطي مع المرأة ككائن مستقل و مسؤول، أما نتيجة تطبيق خارطة الطريق العازلة للجنسين فيمكن قراءتها من مصدرين هامين، تقرير التنمية البشرية السعودي و نسبة المشاكل الأسرية في المحاكم، يذكر تقرير التنمية المنشور على موقع الأمم المتحدة للعام 2010 و الذي استخدم واضعوه إحصائيات العام 2008 أن الفرق في التنمية بين النساء و الرجال يضع السعودية في الترتيب 128 من بين 138 دولة أو في أدنى القائمة العالمية، والمعيار هنا مبني على فرص التعليم و المشاركة في العمل و معدّل وفيّات النساء أثناء الولادة، في السعودية تصل نسبة التعليم العالي للإناث النصف تقريبا مقارنة بالستين في المائة للرجال، و هناك 18 سيدة تموت أثناء الولادة لكل مائة ألف ولادة لطفل حي، كما أن 22% فقط من النساء يعملن مقارنة بما نسبته 82% من الرجال السعوديين، و لا تشغل المرأة أي منصب سياسي أو عام، و بحسب وزارة العدل السعودية فإن 60% من القضايا هي قضايا أسرية، فلا يمكن بعدها افتراض أن كل امرأة لها رجل ما ليقوم على شؤونها و لها فرصة عمل كريمة، حجب الثقة عن النساء لا يسهم سوى في ترسيخ ضعف المجتمع، حيث لا يمكن خلق مجتمع قادر وتمكينه بينما يبقى نصفه مكبلا، فلنحرر نصف المجتمع من عنق الزجاجة حتى يحرر النصف الآخر من وهم المرأة الفتنة والمرأة العاجزة،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق